سورة إبراهيم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{الر} مر الكلامُ فيه وفي محله غيرَ مرة وقوله تعالى: {كِتَابٌ} خبرٌ له على تقدير كون {آلر} مبتدأً أو لمبتدإٍ مضمرٍ على تقدير كونِه خبراً لمبتدأ محذوف، أو مسروداً على نمط التعديد، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لهذا المبتدأ المحذوف، وقوله تعالى: {أنزلناه إِلَيْكَ} صفةٌ له وقوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس} متعلقٌ بأنزلناه أي لتخرجَهم كافةً بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحةِ عن كونه من عند الله عز وجل الكاشفةِ عن العقائد الحقةِ، وقرئ: {ليخرِج الناسَ} {مِنَ الظلمات} أي ليُخرج به الناسَ من عقائد الكفر والضلال التي كلُّها ظلماتٌ محضةٌ وجهالاتٌ صِرْفة {إِلَى النور} إلى الحق الذي هو نورٌ بحتٌ لكن لا كيفما كان، فإنك لا تهدي من أحببت بل {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} أي بتيسيره وتوفيقِه وللإنباء عن كون ذلك منوطاً بإقبالهم إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} استُعير له الإذنُ الذي هو عبارةٌ عن تسهيل الحجابِ لمن يقصِد الورودَ، وأضيف إلى ضميرهم اسمُ الربِّ المفصحِ عن التربية التي هي عبارةٌ عن تبليغ الشيءِ إلى كماله المتوجّه إليه، وشمولُ الإذن بهذا المعنى للكل واضحٌ وعليه يدور كونُ الإنزال لإخراجهم جميعاً، وعدمُ تحققِ الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحققِ شرطِه المستند إلى سوء اختيارِهم غيرُ مخلٍ بذلك والباء متعلقةٌ بتخرج أو بمضمر وقع حالاً من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربِّهم، وجعله حالاً من فاعله يأباه إضافةُ الربِّ إليهم لا إليه وحيث كان الحقُّ مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلاً إلى الله عز وجل استُعير له النورُ تارة والصراطُ أخرى، فقيل: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} على وجه الإبدالِ بتكرير العامل كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} وإخلالُ البدل والبيانِ بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز كما في قوله سبحانه: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر} وقيل: هو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال، كأنه قيل: إلى أي نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد، وإضافةُ الصراط إليه تعالى لأنه مقصِدُه أو المبينُ له، وتخصيصُ الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبةِ الحميدة.
{الله} بالجر عطفُ بيان للعزيز الحميد لجريانه مَجرى الأعلامِ الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق كالنجم في الثريا. وقرئ بالرفع على تقدير هو الله، أي العزيزِ الحميد الذي أضيف إليه صراط الله {الذى لَهُ} مُلكاً ومِلكاً {مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي ما وُجد فيهما داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما كما مر في آية الكرسي، ففيه على القراءتين بيانٌ لكمال فخامة شأنِ الصراط وإظهارٌ لتحتم سلوكه على الناس قاطبةً، وتجويزُ الرفع على الابتداء بجعل الموصول خبراً مبناه الغفولُ عن هذه النكتة وقوله عز وجل: {وَوَيْلٌ للكافرين} وعيدٌ لمن كفر بالكتاب ولم يخرجْ به من الظلمات إلى النور بالويل وهو نقيضُ الوال وهو النجاةُ وأصله النصبُ كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدلالة على الثبات كسلامٌ عليك {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} متعلق بويل على معنى يولّون ويضِجون منه قائلين: يا ويلاه، كقوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}


{الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} أي يؤثرونها استفعالٌ من المحبة فإن المؤثرَ للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبَّ إليها وأفضلَ عندها من غيره {على الأخرة} أي الحياة الآخرةِ الأبدية {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} التي بين شأنُها، والاقتصارُ على الإضافة إلى الاسم الجليلِ المنطوي على كل وصفٍ جميل لزومُ الاختصار، وهو من صدّه صداً وقرئ: {يُصِدّون} من أصدّ المنقولِ من صد صدوداً إذا نكَب وهو غيرُ فصيح كأوقف فإن في صدّه ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل {وَيَبْغُونَهَا} أي يبغون لها فحُذف الجارّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير أي يطلبون لها {عِوَجَا} أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعدُ شيء من ذلك أي يقولون لمن يريدون صدَّه وإضلاله: إنها سبيلٌ ناكبةٌ وزائغة غيرُ مستقيمة، ومحلُّ موصول هذه الصلاتِ الجرُّ على أنه بدلٌ من الكافرين أو صفةٌ له فيعتبر كلُّ وصف من أوصافهم بإزاء ما يناسبه من المعاني المعتبرةِ في الصراط، فالكفرُ المنبىءُ عن الستر بإزاء كونه نوراً واستحبابُ الحياة الدنيا الفانيةِ المفصحةِ عن وخامة العاقبةِ بمقابلة كونِ سلوكه محمودَ العاقبة والصدُّ عنه بإزاء كونه مأموناً، وفيه من الدلالة على تماديهم في الغي ما لا يخفى. أو النصبُ على الذم أو الرفعُ على الابتداء والخبر قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ} وعلى الأول جملةٌ مستأنفة وقعت معلّلةً لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيداً لما أَشعر به بناءُ الحكم على الموصول أي أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورةِ من استحباب الحياةِ الدنيا على الآخرة وصدِّ الناس عن سبيل الله المستقيمةِ ووصفها بالاعوجاج وهي منه بنزه في ضلال عن طريق الحق بعيدٍ بالغٍ في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ، والبعدُ وإن كان من أحوال الضالّ إلا أنه قد وُصف به وصفُه مجازاً للمبالغة كجدّ جدُّه وداهيةٌ دهياءُ، ويجوز أن يكون المعنى في ضلال ذي بُعد أو فيه بُعدٌ، فإن الضالّ قد يضِل عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً وفي جعل الضلال محيطاً بهم إحاطةَ الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة.


{وَمَا أَرْسَلْنَا} أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً {مِن رَّسُولٍ إِلاَّ} ملتبساً {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أو لا، وقرئ: {بلِسْنِ} وهو لغة فيه كريش ورياش و{بلُسُنْ} بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد {لِيُبَيّنَ لَهُمُ} ما أمروا به فيتلقَّوه منه بيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه من غير حاجة إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به، وحيث لم يكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مَئنّةٌ لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البيانِ بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من مخالفة ولو في خَصلة فذّة، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ، ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربي مبين، وانتشرت أحكامُه فيما بين الأمم أجمعين، وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربيةً ثم ترجمها جبريلُ عليه الصلاة والسلام، أو كلُّ من نزل عليه من الأنبياء عليهم السلام بلغة من نزل عليهم، ويرده قوله تعالى: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ} فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم تنزل لتبيين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومِ محمد عليه الصلاة والسلام ليبين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم ما لا يخفى من التكلف {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء} إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف {وَيَهْدِى} بالتوفيق ومنح الإلطاف {مَن يَشَآء} هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق، والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كلَ منهما، والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} كأنه قيل: فبيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها، والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى ما أمر به وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبيانِ.
والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على التجدد والاستمرارِ حسب تجدد البيانِ من الرسل المتعاقبةِ عليهم السلام، وتقديمُ الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاءُ ما كان على ما كان، والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكن، أو للمبالغة في بيان أن لا تأثيرَ للتبيين والتذكير من قبل الرسلِ، وأن مدارَ الأمر إنما هو مشيئتُه تعالى بإيهام أن ترتبَ الضلالةِ على ذلك أسرعُ من ترتب الاهتداءِ وهذا محقِّقٌ لما سلف من تقييد الإخراجِ من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى {وَهُوَ العزيز} فلا يغالَب في مشيئته {الحكيم} الذي لا يفعل شيئاً من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغةٍ، وفيه أن ما فُوِّض إلى الرسل إنما هو تبليغُ الرسالة وتبيينُ طريقِ الحقِّ، وأما الهدايةُ والإرشادُ إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8